إني احتفظت بالحوادث التي أدت في النهاية إلى تعييني في فلسطين لأسردها كقصة متتابعة ، وإني أطلب إلى القارئ أن يرجع بذاكرته إلى أوائل أيام الحرب عندما جعل مصير الأقاليم الجنوبية من الإمبراطورية التركية لدى دخولها الحرب حليفة لألمانيا وأوستريا أمراً حيوياً فقد كان التذمر يملأ المنطقة الشاسعة من سوريا إلى الخليج الفارسي منذ وقت طويل ، وكان السكان الأتراك قلة والقسم الأعظم من السكان يرغب في التحرر من الحكم الأجنبي ، الذي اتصف بسوء الإدارة والخشونة ، وكل منا كان مطمئناً إلى أن الحرب ستنتهي بهزيمة دول الوسط وحلفائهم ، ولم يخامرنا إلا القليل من الشك بأنه سيفتح أمام هذه الأقاليم - ومن ضمنها فلسطين - مستقبل آخر .
وحتى ذلك الوقت ، لم أكن لأهتم بصورة خاصة في الحركة الصهيونية التي بعثت حية في العالم الجديد واشتد ساعدها بجهود الدكتور تيودور هرتزل المؤلف والصحفي النمساوي قبل ذلك بنحو عشرين سنة، وقد استدر الصهيونيون نوعاً من التأييد نالوا معظمه من يهود أوربا الشرقية ، وكانت الصهيونية تعمل على نشر الفكرة وإنجاح البداية العملية لعودة يهودية إلى فلسطين . وقد حاول هرتزل أن يحصل على ترخيص من السلطان من شأنه فتح أبواب فلسطين لهجرة اليهود ومنحهم مركزاً خاصاً فيها ، ولكنه فشل في محاولته تلك ، وبدا أن ليس هناك أية نتيجة عملية متوقعة في وقت قريب . لذلك تركت للآخرين متابعة هذا الخيال البعيد عن التحقق حسب الظاهر .
وفي اللحظة ، التي دخلت فيها تركيا الحرب ، تغير الوضع تماماً ، فإن قدر لفلسطين أن ، تحظى بمصير جديد ، فإن بريطانيا العظمى هي صاحبة الشأن الأول وفي ذلك المصير بما لها من مصالح استراتيجية هامة في الشرق الأوسط .
وإن على حكومتنا ، أن تولي عنايتها الجدية ، موضوع من سيخلف الأتراك في السيطرة على فلسطين ذلك البلد الذي يتاخم قنال السويس ، وبالنسبة لشخصي فقد كان لهذا الموضوع أهمية زائدة وخاصة . فقد كنت الشخص الأول من الشعب اليهودي ، الذي قدر له أن يحتل مقعداً في الوزارة البريطانية _( إذ أن دزرائيلي أخرجه والده وهو طفل من المجتمع اليهودي ) وكان يتحتم على أقل تقدير أن أعلم ما هي الحركة الصهيونية وما الذي تعمله ، فاتصلت بالدكتور وايزمان الذي أصبح أحد زعماء المنظمة الصهيونية البارزين ، و استحصلت منه على مطبوعاته وقرأتها بعناية ، وكلما ازددت قراءة لها ، ازداد تأثري بنفوذها الروحي الذي أنعش بجلاء الحركة الصهيونية بما قدم لها من تضحيات ، وبما إن لها من أعمال على أيدي الطلائع اليهودية ، التي نجحت بدخول البلاد وتوطيد أقدامها فيها ، وبفضل إمكانيات البلاد نفسها : الزراعية والصناعية . وقد تجلت أهمية موضوع مصالح بريطانيا العظمى الإستراتيجية بوضوح لأن فلسطين لو فصلت عن تركيا ، كما هو المحتمل ووقعت تحت حكم أي من الدول الكبرى في القارة فسيكون ذلك خطراً عليها .
لقد تحددت آرائي جيداً في الحال، الأمر الذي دعاني لمقابلته وزير الخارجية ومحادثته بشأنها، وقد جاء في المذكرة المؤرخة 9 نوفمبر سنة 1914 عن هذه المحادثة ما يلي:
إني تكلمت مع السير إدوارد غراي اليوم حول مستقبل فلسطين ، وقد ذكرت خلال الحديث أن تركيا قد ألقت بنفسها في الحرب الأوروبية ، وأن من المحتمل أن تتمزق إمبراطوريتها، وأن موضوع مستقبل السيطرة على فلسطين قد يثار، وأن اختلافات الدول الأوروبية الكبرى قد يجعل من الصعب تخصيص فلسطين لواحدة منها. ولعل الفرصة قد سنحت لتنفيذ أماني الشعب اليهودي القديمة وإعادة إنشاء دولة يهودية فيها.
وقد اقترحت: إنه قد يكون من الممكن تأمين تعاون روسيا ، التي يقيم في بلادها عدد عظيم من السكان اليهود، كما أن اجتياح بولونيا الألمانية والنمساوية وغاليسيا سيجلب معه حشوداً عظيمة منهم، وأن الجيوش الروسية قد لاقت ترحيباً في بولونيا من قبل جميع السكان ما عدا اليهود، وستكون روسيا راغبة إن كانت حكيمة في كسب ولاء رعاياها اليهود القدماء والجدد، ولكني كنت من ناحيتي مرتاباً فيما إذا كان الرأي العام فيها يسمح لحكومته بمنحهم حقوقاً متساوية، فإذا قامت روسيا بدور رئيسي في إعادة إنشاء الدولة اليهودية فإن كسب عواطف اليهود في الأقاليم الروسية سيكون قوياً، لا يخيب في إيجاد تأثير قوي مباشر في وطنهم هناك وقلت: إنني شخصياً، لم أكن في يوم ما صهيونياً قط لأن الآمال في تحقيق أية نتيجة عملية بدت بعيدة لدرجة أنني لم أكن راغباً في المساهمة في الحركة. أما الآن، فإن الأحوال قد تغيرت بالكلية، فإذا ما أقيمت حكومة يهودية في فلسطين فإنها قد تصبح مركزاً لثقافة جديدة، وأن في العقل اليهودي نوعاً من التفوق وفي ظل الرعاية الوطنية قد تصبح الدولة ينبوعاً للاستنارة ومصدراً عظيماً للأدب والفن وتطور العلوم.
وإن تأسيس الدولة سيكون له تأثير على ملايين من الشعب اليهودي المشتتين في عديد من بلاد العالم، والذين سيظلون على تشتتهم، لأن فلسطين أصغر من أن تحتويهم وأن اليهود حادو الذكاء مملئون نشاطاً، ولكنهم في مستوى منخفض. ومرد هذا إلى حد بعيد إلى أنهم يستوعبون معظم آمالهم وأمانيهم من الماضي السحيق لا من الحاضر أو المستقبل . وهذا لا يكفي للنهوض بالشعب، فإن أتيح لهم أن يروا قوماً من أبناء جلدتهم يقومون بأعمال عظيمة، فسيكون لذلك أثره في نظرتهم العامة إلى الأمور . وإن في رفع مستواهم الأدبي ما يضيف إلى الفوائد التي ستجنيها الشعوب التي يعيش اليهود بين ظهرانيها.
واعتقدت أن النفوذ الإنجليزي يجب عليه أن يقوم بدور هام في تأسيس مثل هذه الدولة، لأن وضع فلسطين الجغرافي وقربها من مصر يجعل صداقتها لإنجلترا أمراً له أهميته للإمبراطورية البريطانية.
واقترحت أنه يجب على يهود إنجلترا وأمريكا أن يتوليا زعامة هذا المشروع إذا ما أخذ به، وأن الألمان لا يستطيعون عمل شئ في هذه الظروف ، والفرنسيون ليس لديهم النفوذ الكافي، والإيطاليون كذلك . وقد كان من المهم أن تؤسس الدولة الجديدة تحت رعاية أعظم البلاد تقدماً والتي وجد اليهود أنفسهم يعيشون فيها.
وإن إنشاء دولة جديدة من الأساس لهو مشروع على أعظم جانب من الجسامة، وعلى الخصوص بالنظر إلى العناصر التي قد توجد بين سكان فلسطين الحاليين. لكن شعوري أكد لي أن المشروع سيتم، وأن نداء إلى جماعات اليهود في أنحاء العالم سيوفر دون شك مالا كافياً لشراء حقوق الأفراد القائمة هناك لوضع أسس الدولة. و مع إيجاد نظام للري وطرق وسكك حديدية وميناء سوف يصبح بالإمكان حتما تحسين موارد البلاد الاقتصادية بصورة ملحوظة إذا دخل إلى البلاد الناس الجديرون بالعمل واتخذت الاحتياطات لمقاومة إيجاد طائفة من صغار المتاجرين . وقد كان من رأيي أن الوقت لم يحن بعد، لاتخاذ أي إجراء في هذه اللحظة ، لكن إذا تطورت الأحداث العسكرية إلى ما كنا نتوقع قبل مضي وقت طويل، فإن بالإمكان جس نبض الحكومة الروسية . ومن الأفضل أن يتم ذلك عن طريق غير رسمي.
لقد قال لي جراي: إن للفكرة دوماً تأثيراً عاطفياً قوياً عليه وإن الانجذاب التاريخي كان قوياً جداً. لقد كان موقف جراي مشجعاً للاقتراح وأنه على استعداد للعمل من أجله إذا ما سنحت الفرصة. وإذا تقدمت فرنسا أو أية دولة أخرى باقتراحات بشأن سوريا, فإن من المهم عدم الموافقة على أي مشروع قد يتعارض مع إيجاد الدولة اليهودية في فلسطين . وقد سألني عما إذا كنت أعتقد أن سوريا يجب أن تضم إلى فلسطين بحكم الضرورة, فأجبته كلا، إن الأمر على العكس فليس من حكمة الرأي إدخال أمكنة، كبيروت ودمشق، لأنها تحتوي على عدد كبير من السكان غير اليهود الذين لا يمكن تمثلهم وسألني عدداً من الأسئلة تتعلق بأحوال فلسطين الاقتصادية. وقد ذكرت أن أمرين اثنين يعتبران جوهرين - إن الدولة يجب أن تكون محايدة من حيث إنها لا تستطيع أن تكون كبيرة بالقدر الذي يمكنها من الدفاع عن نفسها، وأنه يجب ضمان حرية وصول الحجاج المسيحيين وقلت أيضاً : إنه سيكون هنالك نفع عظيم إذا ضمت بقية سوريا إلى فرنسا، إذ أنه أجدى للدولة اليهودية أن تكون لها جارة أوربية من أن تكون تلك الدولة تركيا.
ولقد سنحت لي فرصة اليوم، جرى فيها حديث موجز مع لويد جورج في الموضوع ذاته. لقد أشار في مجلس الوزراء إلى مصير فلسطين النهائي، وقال لي إنه مشتاق جداً لأن يرى دولة يهودية قد أنشئت هناك.
وبعد أسابيع قلائل وضعت الأفكار التي شرحتها إلى جراي بمشروع مذكرة إلى الوزارة، وبعد أن قدمت موجزاً بالوقائع وناقشت التغيرات الممكنة التي تطرأ على مستقبل فلسطين ختمت، المذكرة بأن ضم فلسطين إلى الإمبراطورية البريطانية مع تشجيع الاستعمار اليهودي والتقدم الثقافي عملياً هو أحسن حل. وإن الفقرات الأخيرة كانت نوعاً من الختام البلاغي، وإني لم أوزع هذه المذكرة على كل حال، بل أرسلت في أول فرصة نسخاً منها إلى رئيس الوزراء وإلى اثنين أو ثلاثة من الزملاء، ولكن الاقتراح لم يجد صدى لدى اسكويث ذي الطبيعة الخاصة فعندما ظهرت "ذكرياته" بعد سنة وجدت هذه الملاحظة المسلية كتبت في ذلك الوقت.
28 يناير سنة 1915 :
لقد تلقيت الآن، من هربرت صمويل مذكرة عنوانها "مستقبل فلسطين" ذهب يجادل بها بكثير من التطويل وببعض الحماس تأييداً لضم فلسطين إلى بريطانيا البلد الذي بحجم ويلز، الكثير منه جبال قاحلة وبعضه لا ماء فيه. وهو يعتقد أن بإمكاننا أن نقيم في هذا البلد، الذي لا يرجى منه الخير الكثير ما يقرب من ثلاثة أو أربعة ملايين من اليهود الأوربيين، وإن هذا العمل سيكون له تأثير طيب على اليهود الذين بقوا خارج فلسطين. وهذه المذكرة لدى قراءتها تشبه إلى حد كبير طبعة جديدة من "تانكرد" أخرجت للحياة من جديد. وإني أعترف بأن هذا الاقتراح القاضي بإضافة مسئوليات علينا لا يستهويني لكنه تفسير غريب لقول دزرائيلي المأثور المحبب إليه "الجنس هو كل شئ".
وأن يجد هذا القول أصداء غنائية تصدر عن عقل هربرت صمويل الذي عرف عنه التنظيم والتنسيق.
وفي شهر مارس وزعت المذكرة بصيغة منقحة ، بحيث أسهبت في بعض فقراتها وركزت الأخرى وأهملت الجمل البلاغية . وقد تناولت المذكرة التغيرات الممكنة تحت خمسة عناوين هي:
( أ ) الضم من قبل فرنسا .
( ب ) إبقاء فلسطين تركية .
( ج ) تدويلها .
( د ) إنشاء دولة يهودية مستقلة .
( هـ ) فرض حماية بريطانية مع تشجيع استقرار اليهود . وقد أيدت البند الأخير ودافعت عنه .
و قد سجل اسكويث تعليقاً آخر :
13 مارس سنة 1915 :
"أظن أنني كنت أشرت إلى مذكرة هربرت صمويل المغرقة في الحماس، والتي تلح على أنه لدى فصل أملاك تركيا الآسيوية، علينا أن نأخذ فلسطين وأن نحشد فيها ـ في وقت معين ـ جميع اليهود المشتتين في أنحاء الأرض، حيث يتاح لهم الحصول على الحكم الذاتي في الوقت المناسب. ومما يدعو إلى الغرابة حقاً أن المؤيد الوحيد الآخر لهذا الاقتراح هو لويد جورج الذي لا حاجة بي إلى القول بأنه لا يهتم مثقال ذرة لليهود أو ماضيهم أو مستقبلهم، بل يعتقد أن الأماكن المقدسة ستنتهك حرمتها إذا ما سمح لفرنسا الملحدة الاغنوسطية أن تتملكها أو أن تضعها تحت رقابتها".
وهنا يدافع هربرت عن لويد ويقارن بين عقلية الشخصيتين اسكويث، العملي، الحذر، المنمق، ولويد جورج الخيالي والمغامر، ثم يستطرد قائلا ومن بين الأشخاص الذين أرسلت إليهم المذكرة في صيغتها الأصلية لويد جورج، وقد اطلع ردنج عليها فكتب لي الأخير في الخامس من شهر فبراير سنة 1915 قائلا:
إني حادثت لويد جورج حول الموضوع قبل سفره إلى باريس، وهو بالتأكيد يميل إلى ناحية التأييد، وإن اقتراحك أثار النواحي الشعرية والخيالية في تفكيره، وكذلك الناحية الرومانتيكية والدينية.
وفي الخامس من شهر فبراير عقدت حديثاً ثانيا مع جراي . وهذا ما دونته عنه في مفكرتي:
إنه لا يزال مهتماً بإيجاد حل للمسألة على وجه يتفق والآراء الصهيونية ولكنه يرتاب كثيراً في الإمكانية أو الرغبة في إنشاء حماية بريطانية، إنه لا يعرف وجهة نظر الحكومة الفرنسية، وكان على الأصح ميالا لجس نبضها، وقد أشرت على أي حال بأنه بفعله هذا سيفتح مسألة التصرف بالأملاك بعد الحرب على مصراعيها، وأن التصرف في فلسطين لا يمكن أن يبحث دون أن تثار أيضاً مسألة شمالي سوريا، ومن المحتمل مستعمرات شمال أفريقية ولا يميل جراي إلى تحميل الإمبراطورية البريطانية مسئوليات عسكرية وديبلوماسية جديدة تتورط فيها بسبب هذا التوسع في الحدود وعندما سألته عما يرتئيه من حل قال: قد يمكن جعل البلد محايداً في ظل ضمانة دولية، ووضع الرقابة على الأماكن المقدسة في أيدي لجنة تمثل الحكومات الأوربية والبابا، وربما الولايات المتحدة، وأن تخول حكومة البلاد إيجاد نوع من مجلس شورى لليهود، وقد أعربت عن ارتيابي عما إذا كان السكان العرب ـ وهم يؤلفون خمسة أسداس السكان ـ يوافقون على مثل هذه الحكومة . فقال جراي: قد يكون في بقاء السيادة التركية، إذا وجدت ضرورة لذلك، حلاً آخر لتأسيس حكومة قريبة الشبه نوعاً بحكومة لبنان، لكن الحاكم يعين من قبل الحكومات الأوربية فأكدت له الخطر من وجود أي دولة غير إنجلترا تتصرف بفلسطين، وما في إقامة إدارة دولية من مجازفة قد تنتهي بسيادة إحدى الدول الأوربية. وأوضحت، لو أن ألمانيا امتلكت فلسطين قبل اندلاع نيران هذه الحرب لاستطاعت أن تشن هجوما مخيفاً على مصر . فوافق على ذلك.
إن الدكتور وايزمان ، الذي كان منذ سنوات أستاذاً معيداً للكيمياء في جامعة مانشستر، قد تعرف هناك بالمستر بلفور، وكان إذ ذاك أحد أعضاء مجلس النواب ممثلا للمدينة. وفي سياق كتاب أرسله إلى من مدينة مانشستر مؤرخاً ب 21 مارس سنة 1915 قال : " لقد سنحت لي فرصة للحديث إلى مستر بلفور وسيساعدنا إذا كانت الأمور قد وضحت بالنسبة لفرنسا" وهكذا بدأ الاتصال بين بلفور والصهيونية وساده الاهتمام والحماس حتى نهاية حياته . وكان مقدراً له أن تكون له نتائج تاريخية.
لقد تبلورت الآراء في ناحية إيجاد نوع من الحماية البريطانية، وكلما ازداد المرء ارتياحاً للموضوع أصبحت فكرة الدولة اليهودية غير عملية، قد توجد الدولة في المستقبل ومع مجريات الأحداث، ولكن طالما كانت الأكثرية العظمى من السكان من العرب فإنشاء الدولة خارج عن الموضوع. وإن في فرض حكومة من الأقلية اليهودية إخلالاً صريحاً بأحد الأهداف الرئيسية التي أعلن الحلفاء أنهم يحاربون من أجلها ـ وفي نفس الوقت ـ ليس من الضروري أن تقبل الوضع بأن السكان الحاليين قلائل كما هي الحال يجب أن يكون لهم الحق في سد الباب أمام عودة الشعب الذي سبقت علاقته بالبلاد علاقتهم هم، خصوصاً وأن علاقة اليهود بالبلاد قد أنتجت أحداثاً روحية وثقافية ذات قيمة للبشرية بشكل يلفت النظر بمقارنته بالتاريخ المقفر للألف سنة الماضية ، وعلى أي حال ، لم يستدع الأمر اتخاذ أي قرار في الأشهر الأولى من سنة 1915 . إن الوضع العسكري في أوربا وآسيا لم يبرز هذا الموضوع إلى ميدان السياسة العملية .
لقد مضى عامان على ما ذكرت. والجيش البريطاني يتقدم من مصر في فلسطين، وقد آن الأوان لاتخاذ قرار في الموضوع.
ففي إنجلترا تخلت وزارة اسكويث إلى وزارة لويد جورج. وقد أوشك لورد ميلنر أن يقوم بدوره العظيم في سير الأمور وقد بعثت إليه بنسخة من "مذكرة حول مستقبل فلسطين" وفي رده عليها قال: " إنها تحتوي على مقترحات جديدة بالنسبة إلي، ومن بين التغييرات التي بحثتها، فإن ذاك الذي وافقت عليه أنت بنفسك يظهر لي بالتأكيد أنه أكثرها استهواء".
وإني أذكر أن سير ماركس سايكس العضو المحافظ في البرلمان، والعظيم الاهتمام في الشرق الأوسط والذي رأس قسم الاستخبارات في وزارة الحرب التي تبحث هذا القسم من العالم، والذي مثل الحكومة في كثير من الأبحاث التي كانت تجرى حول فلسطين ليس مع الصهيونيين فحسب، بل مع الفرنسيين، وكان حاضراً في مؤتمر عقد في شهر فبراير سنة 1917 بينه وبين الزعماء الصهيونيين، بحثت فيه النواحي الرئيسية من الموضوع بدقة تامة.
وبحلول شهر أكتوبر ـ عندما كان جيش اللنبي يقف أمام مدينة القدس ـ كانت الوزارة البريطانية مستعدة للوصول إلى قرار . فبدلا من جعل فلسطين " دولة يهودية " فإن الفكرة كانت تتخذ شكل " وطن قومي يهودي في فلسطين " . وقد وضع مشروع النص ـ على ما أعتقد ـ بخط يد لورد ميلنر وأرسل إلى عدد من كبار زعماء الطائفة اليهودية للإعراب عن آرائهم. لقد انقسمت الآراء، لأن معظم العائلات اليهودية التي استقرت في إنجلترا منذ عهد طويل كانت على العموم إما معادية للصهيونية السياسية أو غير مهتمة، بل وإن ادوين مونتاج قد اتصل به هرتزل عندما زار إنجلترا قبل بضع سنوات غير أنه قرر الوقوف بعيداً عن الحركة وأدوين مونتاج الذي اشترك في وزارة لويد جورج في شهر يوليو سنة 1917، وكان في ذلك الحين وزيراً للهند ـ كان خصماً عنيداً للسياسة بأجمعها ووزع مذكرتين على أعضاء الوزارة في مقاومة هذه السياسة. وإن ثلاثة ممن استشارتهم الحكومة أخيراً كانوا معادين للسياسة وأربعة يوافقون عليها ـ وهم دكتور هرتز رئيس الحاخامين واللورد روتشيلد وأخي ستيوارت الذي كان في حينها رئيساً لمجلس اليهود المفوضين الذين يمثلون الطائفة اليهودية، وشخصي. وقد أضيف إليهم المتكلمان باسم الصهيونيين دكتور حاييم وايزمان ومستر سوكولوف. إنهم قبلوا الاقتراح "مع السرور العميق والارتياح" ولم يثيروا موضوع الدولة اليهودية.
وحتى ذلك الوقت ، لم أكن لأهتم بصورة خاصة في الحركة الصهيونية التي بعثت حية في العالم الجديد واشتد ساعدها بجهود الدكتور تيودور هرتزل المؤلف والصحفي النمساوي قبل ذلك بنحو عشرين سنة، وقد استدر الصهيونيون نوعاً من التأييد نالوا معظمه من يهود أوربا الشرقية ، وكانت الصهيونية تعمل على نشر الفكرة وإنجاح البداية العملية لعودة يهودية إلى فلسطين . وقد حاول هرتزل أن يحصل على ترخيص من السلطان من شأنه فتح أبواب فلسطين لهجرة اليهود ومنحهم مركزاً خاصاً فيها ، ولكنه فشل في محاولته تلك ، وبدا أن ليس هناك أية نتيجة عملية متوقعة في وقت قريب . لذلك تركت للآخرين متابعة هذا الخيال البعيد عن التحقق حسب الظاهر .
وفي اللحظة ، التي دخلت فيها تركيا الحرب ، تغير الوضع تماماً ، فإن قدر لفلسطين أن ، تحظى بمصير جديد ، فإن بريطانيا العظمى هي صاحبة الشأن الأول وفي ذلك المصير بما لها من مصالح استراتيجية هامة في الشرق الأوسط .
وإن على حكومتنا ، أن تولي عنايتها الجدية ، موضوع من سيخلف الأتراك في السيطرة على فلسطين ذلك البلد الذي يتاخم قنال السويس ، وبالنسبة لشخصي فقد كان لهذا الموضوع أهمية زائدة وخاصة . فقد كنت الشخص الأول من الشعب اليهودي ، الذي قدر له أن يحتل مقعداً في الوزارة البريطانية _( إذ أن دزرائيلي أخرجه والده وهو طفل من المجتمع اليهودي ) وكان يتحتم على أقل تقدير أن أعلم ما هي الحركة الصهيونية وما الذي تعمله ، فاتصلت بالدكتور وايزمان الذي أصبح أحد زعماء المنظمة الصهيونية البارزين ، و استحصلت منه على مطبوعاته وقرأتها بعناية ، وكلما ازددت قراءة لها ، ازداد تأثري بنفوذها الروحي الذي أنعش بجلاء الحركة الصهيونية بما قدم لها من تضحيات ، وبما إن لها من أعمال على أيدي الطلائع اليهودية ، التي نجحت بدخول البلاد وتوطيد أقدامها فيها ، وبفضل إمكانيات البلاد نفسها : الزراعية والصناعية . وقد تجلت أهمية موضوع مصالح بريطانيا العظمى الإستراتيجية بوضوح لأن فلسطين لو فصلت عن تركيا ، كما هو المحتمل ووقعت تحت حكم أي من الدول الكبرى في القارة فسيكون ذلك خطراً عليها .
لقد تحددت آرائي جيداً في الحال، الأمر الذي دعاني لمقابلته وزير الخارجية ومحادثته بشأنها، وقد جاء في المذكرة المؤرخة 9 نوفمبر سنة 1914 عن هذه المحادثة ما يلي:
إني تكلمت مع السير إدوارد غراي اليوم حول مستقبل فلسطين ، وقد ذكرت خلال الحديث أن تركيا قد ألقت بنفسها في الحرب الأوروبية ، وأن من المحتمل أن تتمزق إمبراطوريتها، وأن موضوع مستقبل السيطرة على فلسطين قد يثار، وأن اختلافات الدول الأوروبية الكبرى قد يجعل من الصعب تخصيص فلسطين لواحدة منها. ولعل الفرصة قد سنحت لتنفيذ أماني الشعب اليهودي القديمة وإعادة إنشاء دولة يهودية فيها.
وقد اقترحت: إنه قد يكون من الممكن تأمين تعاون روسيا ، التي يقيم في بلادها عدد عظيم من السكان اليهود، كما أن اجتياح بولونيا الألمانية والنمساوية وغاليسيا سيجلب معه حشوداً عظيمة منهم، وأن الجيوش الروسية قد لاقت ترحيباً في بولونيا من قبل جميع السكان ما عدا اليهود، وستكون روسيا راغبة إن كانت حكيمة في كسب ولاء رعاياها اليهود القدماء والجدد، ولكني كنت من ناحيتي مرتاباً فيما إذا كان الرأي العام فيها يسمح لحكومته بمنحهم حقوقاً متساوية، فإذا قامت روسيا بدور رئيسي في إعادة إنشاء الدولة اليهودية فإن كسب عواطف اليهود في الأقاليم الروسية سيكون قوياً، لا يخيب في إيجاد تأثير قوي مباشر في وطنهم هناك وقلت: إنني شخصياً، لم أكن في يوم ما صهيونياً قط لأن الآمال في تحقيق أية نتيجة عملية بدت بعيدة لدرجة أنني لم أكن راغباً في المساهمة في الحركة. أما الآن، فإن الأحوال قد تغيرت بالكلية، فإذا ما أقيمت حكومة يهودية في فلسطين فإنها قد تصبح مركزاً لثقافة جديدة، وأن في العقل اليهودي نوعاً من التفوق وفي ظل الرعاية الوطنية قد تصبح الدولة ينبوعاً للاستنارة ومصدراً عظيماً للأدب والفن وتطور العلوم.
وإن تأسيس الدولة سيكون له تأثير على ملايين من الشعب اليهودي المشتتين في عديد من بلاد العالم، والذين سيظلون على تشتتهم، لأن فلسطين أصغر من أن تحتويهم وأن اليهود حادو الذكاء مملئون نشاطاً، ولكنهم في مستوى منخفض. ومرد هذا إلى حد بعيد إلى أنهم يستوعبون معظم آمالهم وأمانيهم من الماضي السحيق لا من الحاضر أو المستقبل . وهذا لا يكفي للنهوض بالشعب، فإن أتيح لهم أن يروا قوماً من أبناء جلدتهم يقومون بأعمال عظيمة، فسيكون لذلك أثره في نظرتهم العامة إلى الأمور . وإن في رفع مستواهم الأدبي ما يضيف إلى الفوائد التي ستجنيها الشعوب التي يعيش اليهود بين ظهرانيها.
واعتقدت أن النفوذ الإنجليزي يجب عليه أن يقوم بدور هام في تأسيس مثل هذه الدولة، لأن وضع فلسطين الجغرافي وقربها من مصر يجعل صداقتها لإنجلترا أمراً له أهميته للإمبراطورية البريطانية.
واقترحت أنه يجب على يهود إنجلترا وأمريكا أن يتوليا زعامة هذا المشروع إذا ما أخذ به، وأن الألمان لا يستطيعون عمل شئ في هذه الظروف ، والفرنسيون ليس لديهم النفوذ الكافي، والإيطاليون كذلك . وقد كان من المهم أن تؤسس الدولة الجديدة تحت رعاية أعظم البلاد تقدماً والتي وجد اليهود أنفسهم يعيشون فيها.
وإن إنشاء دولة جديدة من الأساس لهو مشروع على أعظم جانب من الجسامة، وعلى الخصوص بالنظر إلى العناصر التي قد توجد بين سكان فلسطين الحاليين. لكن شعوري أكد لي أن المشروع سيتم، وأن نداء إلى جماعات اليهود في أنحاء العالم سيوفر دون شك مالا كافياً لشراء حقوق الأفراد القائمة هناك لوضع أسس الدولة. و مع إيجاد نظام للري وطرق وسكك حديدية وميناء سوف يصبح بالإمكان حتما تحسين موارد البلاد الاقتصادية بصورة ملحوظة إذا دخل إلى البلاد الناس الجديرون بالعمل واتخذت الاحتياطات لمقاومة إيجاد طائفة من صغار المتاجرين . وقد كان من رأيي أن الوقت لم يحن بعد، لاتخاذ أي إجراء في هذه اللحظة ، لكن إذا تطورت الأحداث العسكرية إلى ما كنا نتوقع قبل مضي وقت طويل، فإن بالإمكان جس نبض الحكومة الروسية . ومن الأفضل أن يتم ذلك عن طريق غير رسمي.
لقد قال لي جراي: إن للفكرة دوماً تأثيراً عاطفياً قوياً عليه وإن الانجذاب التاريخي كان قوياً جداً. لقد كان موقف جراي مشجعاً للاقتراح وأنه على استعداد للعمل من أجله إذا ما سنحت الفرصة. وإذا تقدمت فرنسا أو أية دولة أخرى باقتراحات بشأن سوريا, فإن من المهم عدم الموافقة على أي مشروع قد يتعارض مع إيجاد الدولة اليهودية في فلسطين . وقد سألني عما إذا كنت أعتقد أن سوريا يجب أن تضم إلى فلسطين بحكم الضرورة, فأجبته كلا، إن الأمر على العكس فليس من حكمة الرأي إدخال أمكنة، كبيروت ودمشق، لأنها تحتوي على عدد كبير من السكان غير اليهود الذين لا يمكن تمثلهم وسألني عدداً من الأسئلة تتعلق بأحوال فلسطين الاقتصادية. وقد ذكرت أن أمرين اثنين يعتبران جوهرين - إن الدولة يجب أن تكون محايدة من حيث إنها لا تستطيع أن تكون كبيرة بالقدر الذي يمكنها من الدفاع عن نفسها، وأنه يجب ضمان حرية وصول الحجاج المسيحيين وقلت أيضاً : إنه سيكون هنالك نفع عظيم إذا ضمت بقية سوريا إلى فرنسا، إذ أنه أجدى للدولة اليهودية أن تكون لها جارة أوربية من أن تكون تلك الدولة تركيا.
ولقد سنحت لي فرصة اليوم، جرى فيها حديث موجز مع لويد جورج في الموضوع ذاته. لقد أشار في مجلس الوزراء إلى مصير فلسطين النهائي، وقال لي إنه مشتاق جداً لأن يرى دولة يهودية قد أنشئت هناك.
وبعد أسابيع قلائل وضعت الأفكار التي شرحتها إلى جراي بمشروع مذكرة إلى الوزارة، وبعد أن قدمت موجزاً بالوقائع وناقشت التغيرات الممكنة التي تطرأ على مستقبل فلسطين ختمت، المذكرة بأن ضم فلسطين إلى الإمبراطورية البريطانية مع تشجيع الاستعمار اليهودي والتقدم الثقافي عملياً هو أحسن حل. وإن الفقرات الأخيرة كانت نوعاً من الختام البلاغي، وإني لم أوزع هذه المذكرة على كل حال، بل أرسلت في أول فرصة نسخاً منها إلى رئيس الوزراء وإلى اثنين أو ثلاثة من الزملاء، ولكن الاقتراح لم يجد صدى لدى اسكويث ذي الطبيعة الخاصة فعندما ظهرت "ذكرياته" بعد سنة وجدت هذه الملاحظة المسلية كتبت في ذلك الوقت.
28 يناير سنة 1915 :
لقد تلقيت الآن، من هربرت صمويل مذكرة عنوانها "مستقبل فلسطين" ذهب يجادل بها بكثير من التطويل وببعض الحماس تأييداً لضم فلسطين إلى بريطانيا البلد الذي بحجم ويلز، الكثير منه جبال قاحلة وبعضه لا ماء فيه. وهو يعتقد أن بإمكاننا أن نقيم في هذا البلد، الذي لا يرجى منه الخير الكثير ما يقرب من ثلاثة أو أربعة ملايين من اليهود الأوربيين، وإن هذا العمل سيكون له تأثير طيب على اليهود الذين بقوا خارج فلسطين. وهذه المذكرة لدى قراءتها تشبه إلى حد كبير طبعة جديدة من "تانكرد" أخرجت للحياة من جديد. وإني أعترف بأن هذا الاقتراح القاضي بإضافة مسئوليات علينا لا يستهويني لكنه تفسير غريب لقول دزرائيلي المأثور المحبب إليه "الجنس هو كل شئ".
وأن يجد هذا القول أصداء غنائية تصدر عن عقل هربرت صمويل الذي عرف عنه التنظيم والتنسيق.
وفي شهر مارس وزعت المذكرة بصيغة منقحة ، بحيث أسهبت في بعض فقراتها وركزت الأخرى وأهملت الجمل البلاغية . وقد تناولت المذكرة التغيرات الممكنة تحت خمسة عناوين هي:
( أ ) الضم من قبل فرنسا .
( ب ) إبقاء فلسطين تركية .
( ج ) تدويلها .
( د ) إنشاء دولة يهودية مستقلة .
( هـ ) فرض حماية بريطانية مع تشجيع استقرار اليهود . وقد أيدت البند الأخير ودافعت عنه .
و قد سجل اسكويث تعليقاً آخر :
13 مارس سنة 1915 :
"أظن أنني كنت أشرت إلى مذكرة هربرت صمويل المغرقة في الحماس، والتي تلح على أنه لدى فصل أملاك تركيا الآسيوية، علينا أن نأخذ فلسطين وأن نحشد فيها ـ في وقت معين ـ جميع اليهود المشتتين في أنحاء الأرض، حيث يتاح لهم الحصول على الحكم الذاتي في الوقت المناسب. ومما يدعو إلى الغرابة حقاً أن المؤيد الوحيد الآخر لهذا الاقتراح هو لويد جورج الذي لا حاجة بي إلى القول بأنه لا يهتم مثقال ذرة لليهود أو ماضيهم أو مستقبلهم، بل يعتقد أن الأماكن المقدسة ستنتهك حرمتها إذا ما سمح لفرنسا الملحدة الاغنوسطية أن تتملكها أو أن تضعها تحت رقابتها".
وهنا يدافع هربرت عن لويد ويقارن بين عقلية الشخصيتين اسكويث، العملي، الحذر، المنمق، ولويد جورج الخيالي والمغامر، ثم يستطرد قائلا ومن بين الأشخاص الذين أرسلت إليهم المذكرة في صيغتها الأصلية لويد جورج، وقد اطلع ردنج عليها فكتب لي الأخير في الخامس من شهر فبراير سنة 1915 قائلا:
إني حادثت لويد جورج حول الموضوع قبل سفره إلى باريس، وهو بالتأكيد يميل إلى ناحية التأييد، وإن اقتراحك أثار النواحي الشعرية والخيالية في تفكيره، وكذلك الناحية الرومانتيكية والدينية.
وفي الخامس من شهر فبراير عقدت حديثاً ثانيا مع جراي . وهذا ما دونته عنه في مفكرتي:
إنه لا يزال مهتماً بإيجاد حل للمسألة على وجه يتفق والآراء الصهيونية ولكنه يرتاب كثيراً في الإمكانية أو الرغبة في إنشاء حماية بريطانية، إنه لا يعرف وجهة نظر الحكومة الفرنسية، وكان على الأصح ميالا لجس نبضها، وقد أشرت على أي حال بأنه بفعله هذا سيفتح مسألة التصرف بالأملاك بعد الحرب على مصراعيها، وأن التصرف في فلسطين لا يمكن أن يبحث دون أن تثار أيضاً مسألة شمالي سوريا، ومن المحتمل مستعمرات شمال أفريقية ولا يميل جراي إلى تحميل الإمبراطورية البريطانية مسئوليات عسكرية وديبلوماسية جديدة تتورط فيها بسبب هذا التوسع في الحدود وعندما سألته عما يرتئيه من حل قال: قد يمكن جعل البلد محايداً في ظل ضمانة دولية، ووضع الرقابة على الأماكن المقدسة في أيدي لجنة تمثل الحكومات الأوربية والبابا، وربما الولايات المتحدة، وأن تخول حكومة البلاد إيجاد نوع من مجلس شورى لليهود، وقد أعربت عن ارتيابي عما إذا كان السكان العرب ـ وهم يؤلفون خمسة أسداس السكان ـ يوافقون على مثل هذه الحكومة . فقال جراي: قد يكون في بقاء السيادة التركية، إذا وجدت ضرورة لذلك، حلاً آخر لتأسيس حكومة قريبة الشبه نوعاً بحكومة لبنان، لكن الحاكم يعين من قبل الحكومات الأوربية فأكدت له الخطر من وجود أي دولة غير إنجلترا تتصرف بفلسطين، وما في إقامة إدارة دولية من مجازفة قد تنتهي بسيادة إحدى الدول الأوربية. وأوضحت، لو أن ألمانيا امتلكت فلسطين قبل اندلاع نيران هذه الحرب لاستطاعت أن تشن هجوما مخيفاً على مصر . فوافق على ذلك.
إن الدكتور وايزمان ، الذي كان منذ سنوات أستاذاً معيداً للكيمياء في جامعة مانشستر، قد تعرف هناك بالمستر بلفور، وكان إذ ذاك أحد أعضاء مجلس النواب ممثلا للمدينة. وفي سياق كتاب أرسله إلى من مدينة مانشستر مؤرخاً ب 21 مارس سنة 1915 قال : " لقد سنحت لي فرصة للحديث إلى مستر بلفور وسيساعدنا إذا كانت الأمور قد وضحت بالنسبة لفرنسا" وهكذا بدأ الاتصال بين بلفور والصهيونية وساده الاهتمام والحماس حتى نهاية حياته . وكان مقدراً له أن تكون له نتائج تاريخية.
لقد تبلورت الآراء في ناحية إيجاد نوع من الحماية البريطانية، وكلما ازداد المرء ارتياحاً للموضوع أصبحت فكرة الدولة اليهودية غير عملية، قد توجد الدولة في المستقبل ومع مجريات الأحداث، ولكن طالما كانت الأكثرية العظمى من السكان من العرب فإنشاء الدولة خارج عن الموضوع. وإن في فرض حكومة من الأقلية اليهودية إخلالاً صريحاً بأحد الأهداف الرئيسية التي أعلن الحلفاء أنهم يحاربون من أجلها ـ وفي نفس الوقت ـ ليس من الضروري أن تقبل الوضع بأن السكان الحاليين قلائل كما هي الحال يجب أن يكون لهم الحق في سد الباب أمام عودة الشعب الذي سبقت علاقته بالبلاد علاقتهم هم، خصوصاً وأن علاقة اليهود بالبلاد قد أنتجت أحداثاً روحية وثقافية ذات قيمة للبشرية بشكل يلفت النظر بمقارنته بالتاريخ المقفر للألف سنة الماضية ، وعلى أي حال ، لم يستدع الأمر اتخاذ أي قرار في الأشهر الأولى من سنة 1915 . إن الوضع العسكري في أوربا وآسيا لم يبرز هذا الموضوع إلى ميدان السياسة العملية .
لقد مضى عامان على ما ذكرت. والجيش البريطاني يتقدم من مصر في فلسطين، وقد آن الأوان لاتخاذ قرار في الموضوع.
ففي إنجلترا تخلت وزارة اسكويث إلى وزارة لويد جورج. وقد أوشك لورد ميلنر أن يقوم بدوره العظيم في سير الأمور وقد بعثت إليه بنسخة من "مذكرة حول مستقبل فلسطين" وفي رده عليها قال: " إنها تحتوي على مقترحات جديدة بالنسبة إلي، ومن بين التغييرات التي بحثتها، فإن ذاك الذي وافقت عليه أنت بنفسك يظهر لي بالتأكيد أنه أكثرها استهواء".
وإني أذكر أن سير ماركس سايكس العضو المحافظ في البرلمان، والعظيم الاهتمام في الشرق الأوسط والذي رأس قسم الاستخبارات في وزارة الحرب التي تبحث هذا القسم من العالم، والذي مثل الحكومة في كثير من الأبحاث التي كانت تجرى حول فلسطين ليس مع الصهيونيين فحسب، بل مع الفرنسيين، وكان حاضراً في مؤتمر عقد في شهر فبراير سنة 1917 بينه وبين الزعماء الصهيونيين، بحثت فيه النواحي الرئيسية من الموضوع بدقة تامة.
وبحلول شهر أكتوبر ـ عندما كان جيش اللنبي يقف أمام مدينة القدس ـ كانت الوزارة البريطانية مستعدة للوصول إلى قرار . فبدلا من جعل فلسطين " دولة يهودية " فإن الفكرة كانت تتخذ شكل " وطن قومي يهودي في فلسطين " . وقد وضع مشروع النص ـ على ما أعتقد ـ بخط يد لورد ميلنر وأرسل إلى عدد من كبار زعماء الطائفة اليهودية للإعراب عن آرائهم. لقد انقسمت الآراء، لأن معظم العائلات اليهودية التي استقرت في إنجلترا منذ عهد طويل كانت على العموم إما معادية للصهيونية السياسية أو غير مهتمة، بل وإن ادوين مونتاج قد اتصل به هرتزل عندما زار إنجلترا قبل بضع سنوات غير أنه قرر الوقوف بعيداً عن الحركة وأدوين مونتاج الذي اشترك في وزارة لويد جورج في شهر يوليو سنة 1917، وكان في ذلك الحين وزيراً للهند ـ كان خصماً عنيداً للسياسة بأجمعها ووزع مذكرتين على أعضاء الوزارة في مقاومة هذه السياسة. وإن ثلاثة ممن استشارتهم الحكومة أخيراً كانوا معادين للسياسة وأربعة يوافقون عليها ـ وهم دكتور هرتز رئيس الحاخامين واللورد روتشيلد وأخي ستيوارت الذي كان في حينها رئيساً لمجلس اليهود المفوضين الذين يمثلون الطائفة اليهودية، وشخصي. وقد أضيف إليهم المتكلمان باسم الصهيونيين دكتور حاييم وايزمان ومستر سوكولوف. إنهم قبلوا الاقتراح "مع السرور العميق والارتياح" ولم يثيروا موضوع الدولة اليهودية.